x

مصطفى حجازي مصر «تكذب» على نفسها..! مصطفى حجازي الأحد 27-09-2015 20:23


تقول الرواية إن جماعة من البشر استبد بهم «فراغ العقل» أكثر من «فراغ الوقت».. وتقاطرت عليهم نوائب الدهر حتى لم يعودوا قادرين إلا على الجلوس للسمر.. ولم يعودوا يحسنون إلا الثرثرة..!

طال بهم المقام حتى ظنوا أن القعود والضجيج هما منتهى الفعل في الحياة.. وحتى أحالوا القعودَ تديناً.. وأحالوا اللغوَ وطنيةً!

طال بهم المقام أكثر.. وبلغ منهم التحلل مبلغه حتى ثقل عليهم أن يُكرروا نِكاتهم أو أن يعيدوا الخوض في بلاوى حياتهم.. فما كان منهم إلا أن تفتق ذهنُهم البليد عن إبداع أكثر بلادةً.. وهو أن يُرَقِمُوا نِكاتهم ومشاكلهم.. فما عليهم إلا أن يذكروا «رقم النكتة» فيضحكون.. أو «رقم المشكلة» فيعتدلون في مجالسهم مهتمين واجمين..!

وتوحشت بلادتهم أكثر فأكثر حتى صاروا يُزايدون على بعضهم البعض في درجة الحميِّة والحِرفية في إلقاء الأرقام..!! وانصرف تغابيهم إلى أن كَفَّروا وخَوَّنوا بعضهم البعض.. بل ادعى بعضهم أهلية ودراية- فقط- من تغنيه الجاد بالأرقام الصماء المكررة!!

تبدو رواية عبثية عن التكاذب.. أليس كذلك..؟!.. لا أظن..!

وإلا فما بالكم بنا ونحن نلوك عناوين مشاكلنا بذات الوجوم.. وما ندعيه إلهاماتنا بذات الحماس.. على مدار أربعين سنة أو يزيد..!

وما رأيكم ونحن نتحدث عن استنهاض مجتمع.. ونحن نُكرس فيه التوتر وانعدام الثقة والخوف من كل جديد..!

ما رأيكم ونحن نتحدث عن مستقبل لن يكون إلا بالشراكة.. ونحن نؤصل لوصاية وعنصرية مؤسسية..!

ما رأيكم ونحن نتلمس قوة الانتماء للوطن تكون درعاً للأمن القومى.. ونحن نُغرًّبُ معنى الوطن باستنزافنا حلم التغيير في النفوس..!

ما رأيكم ونحن نُثرثر عن الإبداع علماً وفكراً وثقافةً.. ونحن «نجفف منابع الإبداع» أكثر من تجفيفنا «منابع الإرهاب»..!

وما رأيكم ونحن نأسى على مجتمع ظُلِم كثيراً وندعى انتصاراً له من نفسه وممن ظلموه.. ونحن نحتكر «منطق القانون وروح العدالة» لخاصةٍ من الناس.. ونجعل من «غلظة النصوص وعنت الإجراءات» مشاعاً لا تعرف العامةُ غيرَه..!

ما رأيكم ونحن نملأ الدنيا صراخاً ونحيباً بأعراض مشاكلنا.. ونعجز أن نشخص جذورها- بصدق- فشلاً.. أو خوفاً من الانكشاف والمساءلة والمحاسبة أمام التاريخ.. أو رغبةً في ادعاء الملائكية.. أو هروباً من استحقاقات علاجها..!

ما رأيكم وقد أحلنا الحديث عن قضايا الوجود ذاته إلى «عناوين».. أو بالأحرى «أرقام كأرقام نكات البلداء» في الرواية العبثية.. أرقام نقولها فنهدر ونتوعد.. أو نقولها- هي ذاتها- فنهدأ وقد نهنأ..!

سد النهضة «رقم»..

الاقتصاد «رقم»..

الخطاب الدينى «رقم»..

محاربة الفساد «رقم»..

حتى الدستور «رقم»..!

كلها أرقام لقضايا «مصير» نعرف ونحن نثرثر بها أن منتهى علاقتنا بها.. هو ذكرُها.. والتقعرُ في ذِكرها أو الحماسةُ في ذِكرها أو الحنو في ذِكرها.. فالأهم من فحوى الموضوع.. رقم الموضوع.. وحرفية الإلقاء وأثر الإلقاء على قلوب السامعين..!

المهم الصخب والرتابة والحصار النفسى واستجلاب الأثر النفسى «بالتكرار».. أو «بالإقرار» لمن لم يبدُ عليه اقتناعاً.. فمن لديه قدر من منطق أو ابتُلىَ بإِعمال العقل.. فعليه أن يقر بأن الرقم «ضخم أو ضئيل».. العنوان «مبهج أو مقلق».. كلها ثنائيات «واحد أو صفر».. «أبيض أو أسود».. ثنائيات مفتعلة.. فيها الحد بين الخيانة والوطنية.. وبين الإيمان والكفر وفقاً لهوى من افتعلوها.. هكذا ودونما إعمال منطق..!

المهم كسب الوقت أو قتل الوقت.. ونحن نحوم حول الحمى.. أما أصل المشاكل وجذور أمراضنا المجتمعية ومعيار إصلاح فسادها أو إنماء نجاحها.. فلا حديث عنه بالأساس.. فالحديث عنه زندقة دينية أو وطنية.. بلبلة للوعى العام وخرق للاصطفاف..!

ولذلك لا غرابة في أن نستمر في تشكيل «الفراغ الوزارى» من معين «الفراغ السياسى»!!

ولا غرابة في أن تعلو حناجر كائنات «الفلّ الوفى» مطالبةً بتقويض «دستور»- كانت تتقرب إلى الله «بذكر» محامد مواده- وهو بعده لم يُطبَّق..!

ولا غرابة أن نستدعى رقماً أو عنواناً أو مشروعاً للإلهام فنجده للإلهاء- منه للإلهام- أقرب..!

ولا غرابة أن نسمى الإمعان في مخاصمة روح العصر والعجز عن وعى اللحظة من التاريخ.. خصوصية مجتمع..!

ولا غرابة أن نسمى الإغراق في استنساخ ممارسات تجاوزها العقل والزمن.. إبداعاً سياسياً..!

ولا غرابة أن نسمى الفشل المتواتر في تبنى البدايات الصحيحة.. تدرجاً..!

ولا غرابة أن نسمى الإهدار المتتالى لفرص الانطلاق بل وفرص البقاء.. رَويّةً..!

ولا غرابة أن نسمى انعدام الخيال السياسى والاقتصادى والقيادى.. إخلاصاً للواقع..!

ولا غرابة أن نسمى محدودية الأفق.. براجماتية والتصاقاً باحتياجات الناس..!

ولا غرابة أن نسمى التيه.. رؤية..!

ولا غرابة أن ننكر نواقصنا.. ونسمى كل ذلك.. مؤامرة..!

هذا التيه إلى زوال.. بقدر الله المحتوم.. الأهم هو ما يتوجب علينا فعله.. سلطةً وحكاماً ومحكومينَ.. حتى لا نأثم بإطالة أمد التيه.. ولا نأثم أكثر بإنكاره.. ولا نأثم أكثر وأكثر بألا نعرف لماذا انقشع وماذا يلزم أن نفعل بعد أن تصدمنا حقائقنا..؟!

هذا التيه سينقشع بإحلال «عقلى وجيلى» يحدث في العالم كله الآن لا في مصر وحدها..!

وإخلاص أي وطن لمستقبله مرهون بمدى وعيه باستحقاقات هذا «الإحلال» وعدم الاصطدام به.. فلا طائل من مراوغته أو محاولة الالتفاف عليه.. فالمحتوم لن يؤجل..!

أول تلك الاستحقاقات أن نعرف أن أصحاب الحل والعقد والقادرين على الوصول لجوهر القضايا- لا الثرثرة بعناوينها وأرقامها- ليسوا بالضرورة موجودين في أروقة السلطة «شائخة البيروقراطية» والمخاصمة للخيال والعلم.. ولا في رحم نخبة ماض عقيمة.. ولكنهم موجودون في رحم المجتمع الأخصب والأوسع في «نخبة مؤهلة» ولكنها مُبددة.. مُنسحبة.. تراوغها ثقتها في نفسها حيناً.. ويَغلُبها النبل السياسى أحياناً أخرى.. لا تُزاحم بالمناكب على مواطئ السلطة.. ولا تعرف عن نفسها أن بيدها كل الحكم..!

نخبة تُصنَعُ صناعةً.. بها وعليها تكون صناعة «المستقبل».. في صناعة «الشراكة».. وصناعة «الرؤية».. وصناعة «الحوكمة».. وصناعة «البدائل»..!

عرفناها مصر التي «تتحدث عن نفسها».. ويأبى البعض إلا أن يجعلها مصر التي «تكذب على نفسها»..!

ولكنّا نريدها مصر التي «تصنع نفسها».. وهذا أمر ليس بالعسير على إرادة الشعوب إذا صدقت وأُهّلَت.. وعن إرادة الله إذا استجابت..!

«ونحن لم نحلم بأكثر من حياة كالحياة».. كقول محمود درويش.

فكروا تصحوا..

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية